logo
logo
logo

صحة

جسيمات دقيقة تهدد أجسامنا هل نبتلع خطرًا لا نراه؟

جسيمات دقيقة تهدد أجسامنا هل نبتلع خطرًا لا نراه؟

جسيمات بلاستيكية دقيقة في أجسامنا... من الشاي الساخن إلى أنسجة الدماغ

 

في ركن هادئ من مقاطعة هيرتفوردشاير البريطانية، وتحديدًا في أرشيف زراعي عمره نحو قرنين، اكتشف العلماء ما لم يكن في الحسبان: آثار أولى لجسيمات بلاستيكية دقيقة بدأت بالتسلّل إلى التربة منذ منتصف القرن الماضي. كانت تلك بداية رحلة بلاستيكية صامتة وصلت اليوم إلى أخطر أماكن جسد الإنسان... العظام، والدماغ.

 

ما كان في الأمس مادة ثورية تُبشّر بعصر جديد من الصناعة، بات اليوم جزءاً لا يتجزأ من الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، وحتى الدم الذي يجري في عروقنا. وقد دفع هذا الواقع الباحثين إلى التساؤل الجوهري: هل تقتلنا المواد البلاستيكية الدقيقة ببطء؟

 

من المائدة إلى المجهر: كيف نبتلع البلاستيك دون أن ندري؟

سواء ابتلعناه عبر شاي محضّر في كيس بلاستيكي، أو وجبة سريعة مسخّنة في الميكروويف، تشير الدراسات إلى أننا نستهلك آلاف الجسيمات البلاستيكية الدقيقة سنويًا. وقد رُصدت هذه الجسيمات في اللعاب، الدم، حليب الأم، والبلغم... ثم في الكبد، الكلى، الدماغ، بل وحتى العظام.

 

البروفيسورة ستيفاني رايت، من إمبريال كوليدج لندن، قادت أول "تجربة تحدٍّ بشري" لابتلاع البلاستيك، حيث وافق متطوّعون على شرب محاليل تحتوي على جسيمات بلاستيكية بهدف تتبع مصيرها في أجسامهم. النتائج، المتوقع صدورها نهاية العام الحالي، ستُشكل نقطة تحوّل في فهمنا للمخاطر الصحية.

 

خيوط متشابكة: البلاستيك، الالتهاب، والخرف

الأبحاث الأخيرة رسمت صورة مقلقة:

 

جسيمات بلاستيكية دقيقة عُثر عليها في أدمغة مرضى خرف، بتركيزات تعادل عشرة أضعاف ما وُجد لدى الأصحاء.

 

أخرى اكتُشفت في شرايين القلب، وارتبط وجودها بارتفاع احتمالات السكتة الدماغية أو النوبات القلبية بنسبة 4.5 أضعاف.

 

دراسات حديثة أظهرت وجود هذه الجسيمات في العظام والعضلات، ما قد يعيق قدرة الجسم على الحركة والنمو والتعافي.

 

ويقول البروفيسور ماثيو كامبن، من جامعة نيو مكسيكو: "الدماغ بيئة مثالية لاحتجاز البلاستيك، بسبب محتواه العالي من الدهون وآليات تنظيفه البطيئة".

 

التحدي العلمي: كيف نُثبت أن البلاستيك يقتل؟

رغم تزايد الأدلة، لا يزال العلماء يتحفّظون عن الجزم بوجود علاقة سببية مباشرة بين البلاستيك والأمراض المزمنة مثل السرطان أو الخرف. السبب؟ تنوّع الجسيمات البلاستيكية من حيث الحجم والمادة، وتفاعلها المختلف مع كل جسم بشري.

 

تقول العالمة النمساوية فيرينا بيتشلر: "المصطلح نفسه، 'جسيمات بلاستيكية دقيقة'، يُخفي خلفه طيفاً واسعاً من المواد الكيميائية والسلوكيات المختلفة... لا يمكن معاملته كعامل واحد".

 

مع ذلك، تشير البيانات المبكرة إلى أن الجرعات اليومية من البلاستيك قد تؤدي إلى التهابات مزمنة، اضطرابات في الأيض، وتسارع في الشيخوخة البيولوجية. وفي حالات أخرى، قد تُعطّل هذه الجسيمات فعالية أدوية علاج السرطان أو تُفاقم أعراض الربو.

 

من الأرض إلى الدم: البلاستيك حاضر حتى في النوم

داخل منازلنا، في الهواء الذي نتنفسه أثناء النوم، في معدات المستشفيات، وحتى في القارة القطبية الجنوبية التي كانت تُعد نقية... البلاستيك بات في كل مكان.

 

الباحثة فاي كوسيرو، من جامعة بورتسموث البريطانية، تعمل على تتبّع البلاستيك في البلغم والرئتين لدى مرضى الربو، وعلى الضغط من أجل تغيير في تصميم الأدوات الطبية المصنوعة من البلاستيك، قائلة: "إن لم نتمكن من منعه تماماً، فعلينا على الأقل أن نُخفّف ضرره".

 

خاتمة: خطر صامت بانتظار من يصرخ

قد لا يقتلنا البلاستيك غدًا، لكنه ـ على الأرجح ـ ينهش أجسادنا اليوم، شيئًا فشيئًا. يشبّهه بعض الباحثين بـ"الأسبستوس العصري"، ليس لأنه يُحدث ضررًا مباشرًا وفوريًا، بل لأنه يُراكم الأذى على مدى طويل، بهدوء، ومن دون أن نشعر.